A review by khuzyma
القلعة by A.J. Cronin

fast-paced

5.0

يقول محمد قطب رحمه الله وأخاه وجزاهما عنّا كل خير: "…والفنُّ الإسلامي ليس بالضرورة هو الفنُّ الذي يتحدَّث عن الإسلام! وهو على وجه اليقين ليس الوعظَ المُباشر والحثَّ على اتبّاع الفضائل. وليس هو كذلك حقائق العقيدة المُجرَّدة، مبلورةً في صورةٍ فسلفيَّةٍ.. فليسَ هذا أو ذاكَ فناً على الإطلاق."

ويقول: "فالفنُّ ليس «فكرةً» ولا «فلسفةً» ولا «مفاهيم مجرَّدة» كالتي تُعنى بها البحوث الفكريَّة في شتَّى الميادين.
وإنما هو الانفعال الذاتيُّ الخاصُّ بالأشياء والأشخاص والأحداث. الانفعال الذي تتلقَّاه كل نفسٍ مفردةً على طريقتها الخاصةِ في التلقي، وتنفعل به في أعماقها، و«تُعانيه» معاناةً كاملةً بكل جزئياته وتفصيلاته، ثمَّ تخرجُ من هذه المعاناة المشتبكة والتجارب والاتجاهات والميول.. تخرج منها بتحربةٍ شعوريَّةٍ معيَّنةٍ، أو «بإفرازٍ» معيَّنٍ، يحمل السمات الذاتية لصاحبه، ويحبُّ صاحبه أن ينقله إلى «نفوس» الآخَرين في صورةٍ جميلةٍ يتوافرُ لها التأثير والإمتاع.
والفنُّ «رؤيةٌ» للواقع من خلال ذلك الانفعال الذاتيِّ الخاصِّ بالأشياء والأشخاص والأحداث، و«تفسيرٌ» لهذا الواقع في ذلك الضوء الخاصِّ، تفسيراً شعورياً -لا فلسفياً فكرياً- كما أنه هو «رؤيا» للمستقبل وللمجهول وللماضي كذلك بنفس الشروط.
والفنُّ الإسلامي -من ثمَّ- ينبغي أن يصدرَ عن فنانٍ مسلمٍ، أي «إنسان» تكيَّفت نفسه ذلك التكيُّف الخاصَّ الذي يُعطيها حساسيةٍ شعوريَّةٍ تجاه الكون والحياة والواقع بمعناه الكبير، وزُوِّدَ بالقدرة على جمال التعبير؛ وهو في الوقت نفسه إنسانٌ يتلقَّى الحياةَ كلها من خلال «التصوُّر الإسلامي»، وينفعلُ بها ويعانيها من خلال هذا التصوّر؛ ثمّ يقصُّ علينا هذه التجربة الخاصة التي عاناها في صورةٍ جميلةٍ موحيةٍ.
[…]
صحيحٌ أنَّ المسلم الحقَّ -بطبيعة إسلامه- يجد الطريق أمامه مُيسَّراً -حين يُوهَبُ الموهبة الفنية- لأنه يعيش بين المفاهيم الإسلامية بالفعل، وينفعل بالأشياء والأشخاص والأحداث من خلال هذه المفاهيم، دون جُهدٍ مبذولٍ منه ولا افتعال، بل دون قصدٍ واعٍ منه إلى هذه الانفعال.
وصحيحٌ -من ناحيةٍ أخرى- أنَّ المسلم وحده هو الذي تتسع نفسه للتصوُّر الإسلامي الكامل، لأنَّ هذا «التصوُّر» هو المُقتضى الطبيعي المباشر لحقيقة إسلامه، ولأنَّ الإنسان لا يصلُ إلى هذا التصوُّر الكامل الشامل حتى يكون قد أَسلمَ نفسه لله على طريقة الإسلام وبمفهوم الإسلام.
ومع ذلك فإنَّ التصوُّر «الفنيَّ» الإسلاميَّ للكون والحياة والإنسان، هو تصوُّرٌ كونيٌّ إنسانيٌّ.. مفتوحٌ للبشريَّة كلها، لأنه يُخاطب «الإنسان» من حيث هو إنسان، ويلتقي معه كذلك من حيث هو إنسان، ومن ثمَّ يستطيع أيُّ «إنسان» أن يتجاوبَ مع هذا التصوُّر، ويتلقَّى الحياةَ من خلاله بمقدار ما تطيق نفسه هذا التلقِّي وذلك التجاوب؛ فيلتقي مع الفنِّ الإسلامي بذلك المقدار." اهـ.

إذاً هو إبراز القِيَم التي يَعرف الإنسان فضيلتها من نفسه فِطرةً؛ معركة الفضيلة والشرّ، وتعقيد تركيب النفس الإنسانية من شهواتٍ وميولٍ وخيريّة؛ فهي تارةٌ أمَّارةٌ بالسوء وأخرى لوَّامة وأحياناً مطمئنة، ومجاهدة/معارك الإنسان مع نفسه أمام الرذيلة بأنواعها.
هذا هو الفنُّ الإسلاميُّ، الذي هو إنسانيٌّ بالأصالة.

وهذه المقطوعَة الأدبية الرائقة، التي تقومُ على هذا الأمر؛ المُثُل العُليا المحبوبة لذاتها فِطرةً: العدل والصدق والعفّة والوفاء ونحوها ومراغمتها الشرورَ التي لا انفكاكَ عنها ابتلاءً، هي أفضلُ مُعبِّرٍ عن هذا التعريف «الإسلاميّ الإنسانيّ الكَوني» للفنِّ.
وقد قرأتها غير مرة، فلا أنفكُّ أجدها مؤثِّرةً معبّرةً.
(تُقرأ بالنصِّ الأصلي أو بترجمة حلمي مراد حصراً، أو لا تُقرأ أبداً)

ويُفرحني هذا التعريف، لأني أستشعره من نفسي، فمثلاً لا أستسيغُ شعر أبي العتاهية، وأجده أجدر الشعر بمقولة الأصمعي: الشعر نكد بابُه الشرُّ، فإذا دَخلَ في الخَير ضَعُفَ ولَانَ.
وهي كذلك ليست على إطلاقها، فحسَّان رضي الله عنه ومن بعده جرير وإلى يومنا هذا تجدُ أدباء فُحولاً بشتّى أنواع الأدب دخلوا وأدخلوا أدبهم بالخير، لكن ما أن تجدَ مَن نسجَ على طريقة أبي العتاهية تشعر بهبوطَ الشعر على أُمِّ رأسه، ويُستثنَى من ذلك من المعاصرين سليم عبد القادر رحمه الله، فهو نموذجٌ فذٌّ في الشعر الإسلامي المباشِر خَرَقُ مقولة الأصمعي، ليس له مثيلٌ في بابته أبداً. وثمة أسماء أخرى -معاصرة- وإن كانت أقل درجةً.

وإن أردتُّ أن أُضيفَ إلى (القلعة)، ما يَدخل في حَدِّ «الفنِّ الإسلامي» (على التعريف الآنف ذكره-، فرائعة يوسُف إدريس (العَيْب) رأسٌ في هذا الفنِّ، لا رَيب.
ويمكن إضافة (سلطان العالَم) لألكسندر بلياييف، وإن كانت محسوبةً على (الخيال العلمي) وقلَّ أن أميلَ لقراءة هكذا نوع، لكنها فريدةٌ في بابها، فلم تأتِ بإسفافٍ فانتازيّ سَمِجٍ، وبعيدةٌ كل البُعد عن خوارق مارڤل وصَرعات ستار وورز وأضرابه.
والصراع فيها بين هَوَس السيطرة وشرور النفس أمام الخيريَّة المَفطورة والحبِّ، مرسومٌ بدقَّة مُذهلة وإحساسٍ رفيعٍ، وهي تَليقُ بعصرنا كونَ للآلة دورٌ أصيلٌ فيها، يناسبُ عصر التقنيّة الباغية الذي نعيشُ وفجوره.

وهناك غيرهم، لكنّ أولاءِ -خاصةً الأُوْلَيَتَان لوضوح الأمر فيهما- لا يَعدِلهُم شيء فيما نُريد، حَسَب قراءتي، والله أعلم.