A review by fatmayehia
الآنسة by Ivo Andrić

3.0

ثلاث نجوم ونصف

لا يترك إيفو أندريتش فرصة للقارئ منذ البداية لكي يتساءل عن سر استحواذ وتملك صفة مقيتة مثل البخل على فتاة صغيرة مثل "رايكا". كانت صدمة رايكا لوفاة والدها الحبيب والمقرب لقلبها، وصغر سنها تربة خصبة تلقت كلمات والدها الأخيرة ما قبل الموت، ورعتها حتى تأصل بداخلها ذلك الإصرار. الإصرار على تنفيذ وصية والدها بشكل حرفي-والذي قال ما قاله وقت احتضاره تأثرا بما فعل الزمن به جزاء كرمه وإخلاصه لمن لا يستحق-وبكل إخلاص لم يحتاج منها لحظة تفكير أو تردد واحدة لكي تعيد النظر فيما تفعله بنفسها وبحياتها.

هل كانت تنتهج سبيل البخل لتحمي نفسها من مصير أبيها؟ لا أظن ذلك، فهى لم تأبه لانحدار صحتها ونفور كل ما كان قريبا منهم عنها. أظن أنها كانت "تستغفر" عن ذنب أبيها. جعلت سعادتها قربانا فربما اتباع وصيته يُسعد قلبه في العالم الآخر ويعوضه عن الحزن الذي لاقاه في أيامه الأخيرة.

وبتقدمنا في قراءة الرواية، نرى أن ذلك الإخلاص لتنفيذ وصية الأب قد تحول إلى "شره" وعبودية للمال والقرش. نرى تحول رايكا إلى مرابية حقيرة جشعة، لا ترى ولا تسمع ولا تشعر إلا برنين القرش أمامها.

هل من الممكن أن يجد علينا ما يُغير ولو مؤقتا ما تأصل بداخلنا لسنوات طويلة؟ بالفعل يأتي الشاب "راتكوفيتش" شديد الشبه بخالها المتوفي والذي كانت تكن له محبة خاصة، ويمحو بداخلها قليل من تمسكها الصلد بالتقتير روحياً ومادياً.
تغلب عليها مرة أخرى روح "الإنقاذ" و"التكفير" عن ذنب لم ترتكبه. فكما كفرت ببخلها وحرصها عن كرم وإسراف أبيها الذي قاده إلى الموت، فهى تكفر بمحاولاتها لإنقاذ ذلك الشاب الذي يتضح لنا فيما أنه مجرد نصاب، تكفر عن ذنب موت خالها المبكر الذي ظنت أن كل ما كان يحتاجه هو وجود "روح حارسة وراعية" له توجهه إلى طريق الصواب. فتحاول أن تفعل ذلك مع تلك الشاب، ولكنها تُطعن في النهاية بحقيقة ذلك المدع النصاب.

لماذا لم تدرك "رايكا" منذ البداية أن لا أحد ينتظر "الإنقاذ " غيرها؟ لماذا لم تتحرك بداخلها عاطفة الشفقة والحب إلا تجاه أشباح الموتى؟ لماذا لم يتحرك قلبها لحظة واحدة تجاه أمها الحية التي كانت تستحق بكل تأكيد ولو قدراً قليلا من تلك الحب الذي أسبغته على الموتى؟
اظن ذلك هو الغباء الذي يضع غشاوة على أعيننا فنهدر حياتنا سائرون في طريق مظلم اطفئنا أنواره بأيدينا.

لا تتحرك بداخلي عاطفة الشفقة تجاه رايكا إلا في النهاية. اختارت الظلام بنفسها ولم يختره لها أحد غيرها. لم تكن لتحظى شخصية مثلها بنهاية أفضل من ذلك. أشفقت عليها لأن غباؤها كان أكبر من شرها أو انحطاطها الروحي. فهناك من هم أكثر انحطاطا منها، ولكن ذكاؤهم ساعدهم على تجنب نهايتها المظلمة.

للرواية جوانب قوة كبرى ومواطن ضعف أكبر خفضت للأسف من مكانة كبرى كانت تستحقها. فشخصية رايكا هى شخصية ذات حضور أدبي آسر وقوي. والرواية بها قدر من الصراعات النفسية الفريدة التي جعلت عقلي في حالة تساؤل وحضور دائم طوال قراءتي لها.
ولكن غلبت الكثير من التفاصيل التي لا أهمية لها. فتلك الصفحات الطوال التي ملأت الرواية عن النجتمع اليوغوسلافي وعن التيارات الثقافية والفكرية في ذلك المجتمع، لم ينجح المؤلف في إحداث علاقة حقيقية بها وبما يحدث في الرواية وشخوصها.
كان هناك أيضا مجالا أكبر للتعمق بشكل أكبر في بقية شخوص الرواية مثل الأم او حتى الأب المتوفي. ولكن اختار المؤلف أن يكون الوجود هامشي لكل الشخصيات عدا رايكا. ويمكننا استثناءها من هذا التجاهل هى شخصية يوفانكا. والتي بها قدراً غير قليل من الاختلال العقلي. تلك الشخصية الفريدة روائياً والتي صادفت أمثالها في الحياة الواقعية. نجح إيفو اندريتش برسم تلك الشخصية بمهارة وقدرة مثيران للأعجاب. فتلك شخصية ذات نوع فريد من الإضطراب العقلي الذي لم أجده مجسدا من قبل في أي عمل روائي.

الرواية واحدة من الأعمال التي حركت عقلي ومشاعري بشكل مميز لم أختبره منذ زمن. هى رواية جديرة بالقراءة المتأنية رغم ما بها من عيوب