A review by rashed
The Stranger by Albert Camus

4.0

الغريب- اول كِتاب استعرته من مكتبة الجامعة عِندما كُنتُ ما ازال في سنتي الاولى, "الغريب", جذبني العنوان.. مناسبٌ لوضعي, بعدما ان كُنت في ادرس في "اسطبلات" 12 عاماً, وشاركني في مقعدي اثنان آخران.. وفي صف فيه 60 "رأساً" كما كان يحلو للمعلميين ان يوصفونا.. درسنا في اسطبلات تابعة لوزارة التعليم والثورة الحيوانية.. اصبحت ادرس في جامعة الآن, جامعة كبيرة وذات سمعة مرموقة, كان الجميع يحسدني عليه, اصدقائي: بسبب الفتيات. اقربائي: بسبب سمعة الجامعة وسهولة مواصلاتها.. بينما انا الذي كان عليه فِعلياً ان يحتك بها كان لي رأيٌ آخر, من حُسن الحظ انها جامعة كبيرة.. سور المدرسة قد ولّى بلا رجعة الآن على الاقل, كلما شاهدت طالباً او طالبة صباحاً اشعر بحزنٍ يطغى على هوامش افكاري-- هذا الطفل عليه ان يخوض الـ12 سنة اياها, ما زال في اول الطريق..

اعود لقراءة الرواية كما في سَنتي الاولى وما زالت لهذه الرواية نفس الآثر عليه: تعاطفٌ وبل إعجابٌ كامل بشخصية بطل الرواية, الذي قَتَلَ عربياً كما قرر ألبير كامو (ربما لأن العربي كان وما زال على هامش قائمة اسعار الارواح, يحتلها من الاسفل فكان لِزاماً ان يكون موت العربي عبثياً وتعبوياً للفراغ لا اكثر ولا اقل), عندما قرأت هذه الرواية عَلمت أنه ما من منفذ, كان لا بدي لي من مراجعة اخلاقياتي لأن الامور لا تعمل هكذا في الواقع, بأمكانك ان تكون الألطف كان ربما سوف ينقلب عليك كل هذا, أن الاحداث البسيطة من اشعال سيغارة الى سيرك مع عشيقتك في الشارع مروراً بطريقة معاملتك لوالدتك كُلها تتظافر لتحدد لك مَصيرك, وسلامي عليك ايتها "الارادة الحرة" كما يظن البعض انها امرٌ حقيقي..

لن اتحدث ان اسلوب ألبير كامو الادبي المُميز والجاذب, كامو جعل التدخين يبدو رائعاً, والعيش وحيداً يبدو جاذباً.. كامو يعطي للتفاصيل التي تتاجهلها اهمية ما.. لكن ما يزعجني في الرواية هو "المدعي العام" و المحاكمة ككل..

ان المدعي العام موجود في كلِ مَكان, يواصل في المحكمة بعبعته وخطابه العاطفي الاخلاقي الذي يجعلك تقرص نفسك اثناء القِراءة, واصفاً كيف ان هذه القضية التي وُكَّلَ بِها سببت لها "ارقاً وتعباً", وكيف ان القاتل "مريض في روحه", وانه "خطر على المجتمع"... لك ان تفحص الرواية بنفسك ومن ثم تسقطها على ما يسمونه "القانون" في مجمتعك.. لدينا حبٌ غامض لمراكمة النصوص القانونية, الانسان الحديث ظن بأستبداله النصوص الدينية بالقانونية انه هكذا ابتدع حَلاً لمعضلة العدالة التي لم يستطع حتى ان يضع لها تعريفاً, لم يتغيير الانسان, ما زال كهنوتيّاً بأمتياز..
تعاطفي مع القاتل لا يعني أنني لا اتعاطف مع الضحية كذلك- لكن ليسَ بالضرورة, لَدي في عائلتي شخصٌ قُتل وتراكمت الادلة مثل الكثبان الرملية التي تثبت ادانة القاتل لكن القاتل تابع حياته ببساطة, لكنني لن اسقط حدثاً شخصياً واحوله لحدثٍ كوني.. سأكون تجريدياً, وليس عادلاً.. كلمة عدالة كلمة شِعرية لا تصلح في هذه المواقف..
يواصل المدعي العام استخدام قطع صغيرة من حياة القاتل ويرتبها كطفل يحاول ترتيب قطع احجية ما اشتراه له والداه- في المُحاكمة يصبح تدخينك البريئ للسيغارة موضع اتهاماً لك، مشاهدتك لفيلم مع عشيقتك، لغة جسدك في جنازة والدتك.. تصبح المحاكمات احياناً حلبة ديسكو, لكل من هبَّ ودب, يحب الجميع الرقص فيها, من محاميين وشهود وقضاة, اما المُتهم فمصيره ليسَ من شأنه, اما الضحية فهو الصفر المُطلق في هذه القضية كلها... المحاكمة ليست من اجل الضحية وحق الضحية كما ييدو لكم، ان المُحاكمة هي مشهد اكثر اناقة لأشخاص يتصارعون في التراب.. الغاية نفسها: التصارع والانتقام. ولكن الوسيلة تغييرت.. لم يجد الانسان حلاً للانتقام والرغبة به، فماذا فعل؟ جعل الانتقام يكتسي بزيٍ مدني بعدما ان كان بربري..

اواصل القِراءة في الرواية وما زلت مُتضايقاً من المدعي العام, ماذا لو ظَهرَ واحدٌ مِثله في مُحاكمتي؟..
لَدي حنقٍ كبير تِجاه المُبشريين: رجال الشرطة, المحامون, القضاة, المدعون العوام, رِجال الدين, اصحاب الخطابات الاخلاقية.. وكل من يحمل سوط الاخلاقية بيده ويحاول لسعنا به.. تبدو الاخلاق واضحة كجبلٍ في الافق, لكن لا احد مِنّا يتجرء على تسلقه وزيارة كهوفه.. نحب مشاهدة اللهب لكننا ننزعج من حرارته..

انا بصراحة مُتعاطف وبل محب للشيطان والجحيم كمكان ومبدأ, منذ الازل.. منذ اول مشهد مسرحي في تاريخ الوجود, وانا اشاهد الشيطان يصبح كبش الفداء لوجودنا.. وهذا الشيطان ليسَ واحد, فهو مَجازياً يمثل الكثييرون مِنا, انك لا تعلم في عيني من انت شيطان, ان شيطان رَجلٍ ما لهو مَلاك رَجلٍ آخر..
اواجه صعوبة في بلع الخِطابات الاخلاقية و "مكافحو الشر", وحاملي صولجانات التبشير بدأ من رِجال الدين مروراً بخنازير السياسة.. كل هؤلاء يعبدون طريقاً ما ويجبروننا على المرور فيها, ان نمر تحت جهاز المَسح خاصتهم..

لعبة الشيطان\القديس التي يلعبها الكِبار التي لهي اسقاط للعبة الشرطي\اللص التي كنت نلعبها صِغاراً لكن على مستوى اكثر جِدية, لطالما فضلت دور اللص, ليسَ لأنني مُحبٌ للتَمرد.. بلى على العكس, التَمرد يبدو لي للمُراهقيين والسٰذّج الآن, لكن للشر فلسفة تفرض نَفسها ببسالة اما الخير الذي لا يملك فلسفة بل يملك نوعاً من القبول العام فحسب.. جذبتني فلسفة الشر, أنك لو دَرست اغلب المواقف التي تَمر فيها سوف تَجد فيها مُبرراً لكل فعل شرير.. وهذا طبعاً يعتمد على تعريفك للشر- الذي يمتلك تعريفاً سائداً مُسبقاً حدده الأخيار وليس الاشرار.. وهذا يجعلني اتسائل.. يبدو ان القديس مهووس بالذنب اكثر من المُذنب.. لما تكن لتظهر مجلة "بلاوي بوي" لولا اختراع "الطهارة"...
في النهاية اقول: الشيطان ليسَ بذلك السوء, القديس هو المُتهم والقاضي في نفس اللحظة, الشرر ضرورة لأن الضوء لا قيمة له بدون العتمة..