A review by redamahmoud
رأيت رام الله by Mourid Barghouti, مريد البرغوثي

5.0

"رأيت رام الله" من الوهلة الأولى لقراءة العنوان تعتقد بأن المقصود هو الكاتب مريد البرغوثي – وهو كذلك – ولكن ما أن تنتهي من الرواية / الكتاب حتى تجد النغمة وجهت إليك أنت وتهمس في أذنك وقلبك بأنك: رأيت رام الله ودير غسانة وبيت رعد وشجرة التين وبراميل الزيت.
هذه السيرة الروائية تجسد باحترافية شديدة مرارة الغربة وكسرة الهزيمة. وما يميز مريد البرغوثي في هذه الكتابة عن غيره هو الابتعاد عن النحيب المتكرر؛ فنجد من اللحظة الأولى والوقوف على الجسر الفاصل بين المملكة الهاشمية وفلسطين عين الواقعي تلتقط وجود الكيان الفلسطيني بشكل صوري وأن صاحب الكلمة هنا هم الإسرائيليون. يريدون أن يخبروا الجميع بأنهم الأسياد هنا. يخلو كتاب / رواية مريد البرغوثي من الخطب الرنّانة الهتافية التي تجرد الحقائق من أنصافها وتروي النصف الأخر فقط! لم يقع فيما أسماه في أخر كتابه بالبدء ب "ثانيا".
"من السهل طمس الحقيقة بحيلة لغوية بسيطة: ابدأ حكاياتك من "ثانيا."
رغم كل ما سبق لا يمكن أن تخلو هذه السيرة من المرارة والبكاء والحزن والكسرة والخيبة والخيانة والكذب والادعاء وكل الأفعال والمشاعر المشينة. كيف تخلو الهزيمة من ضحاياها؟ إنه أمر حتمي أن يتحدث الكاتب عن الذين ذهبوا فداء الأرض والذي تشردوا وغابوا قهرًا وذلًا، ويتحدث عن الذين عادوا بعد سنوات ليجدوا أن الأرض تبدلت في الداخل وحافظت على الشكل الظاهر فقط. كما يؤكد مريد في كتابه على أن أعظم جرائم الاحتلال هي جعل فلسطين تحافظ على الماضي وتتخلف عن الركب وتظل تبكي الماضي ناسية الحاضر والمستقبل. تتداخل الثلاثة أزمنة في بوتقة واحدة لا يمكن الفصل بينهم.
يتحدث مريد البرغوثي عن الذين ماتوا ولم يعودوا إلى ديارهم مرة أخرى بمزيج عاطفي مذهل. فهم، هنا، معنا يسيرون على شوارع رام الله ودير غسانة وغيرهم. نراهم أطفالا وشبابا ورجالا وشيوخًا – إن تجاوزا الشباب أصلا. يتحدث عن "منيف" أخوه الجميل في كل شيء والذي مات في فرنسا وحيدًا وحدة قاتلة مهينة لأن الكل رفض تقديم أي مساعدة. وعن رسام الكاريكاتير "ناجي العلي" وعن الكاتب العظيم "غسان كنفاني" ليؤكد لنا أن القضية تتجاوز أرض فلسطين وحدودها وتصل إلى كل بقاع العالم.
لا يمكن أيضا أن تخلو الكتابة من التعرض للسياسة، ولكنها هنا هي الأخرى مختلفة كل الاختلاف؛ فلم تُكتب إلا لفهم الأوضاع الاجتماعية واستيعاب الأيدولوجيات الكثيرة التي تتعرض لها البلاد. نرى مرحلة عبد الناصر بكل خيباتها ونكستها المريرة وندرك السادات وأهواله ونعرف لماذا ينفي مريد البرغوثي ويبعد عن أسرته – الدكتورة رضوى عاشور وابنه تميم – كل هذه السنوات، لنجد الحقيقة في وجوهنا مرة ثانية أن قضية الفلسطيني وشتاته تتجسد معه في بطاقة هويته وأن هذه الهوية تعرقل أكثر من أن تسهل التنقل الاختياري لكنها خبيرة بالنقل والنفي الإجباري. "إن السنوات محمولة على كتفيك. تفعل فعلها البطيء دون أت تقرع لك أي أجراس."
لم ينفِ مريد البرغوثي هنا فضاحة الاحتلال الغاشم وضحاياه الكثيرة المشردة والمقتولة والمهددة إلى يومنا هذا، ولكنه كذلك لم ينف نصيب الفلسطينيين أنفسهم في هذا الواقع وأن من بينهم من نسي القضية وتعامل مع الواقع وتأقلم، والعرب الذين تأقلموا والذين هم دائما يتأقلمون مع شروط الأعداء.
هذه الرواية من أجمل ما قرأت في السير الذاتية وعن القضية الفلسطينية. جاءت اللغة سلسة وقوية وجذلة وغنية بالتراكيب اللغوية المختارة بعناية من أول سطر. الكتاب مليء بالاقتباسات البديعة، منها:
"المخدة سجل حياتنا. المسودة الأولية لروايتنا التي كل مساء جديد، نكتبها بلا حبر ونحكيها بلا صوت. ولا يسمع بها أحد إلا نحن."
"علمتني الحياة أن علينا أن نحب الناس بالطريقة التي يحبون أن نحبهم بها."
"كانت كل عودةٍ مؤقتة تكمل النصف الثاني من الجملة. فالغربة كلها شِبه جملة. الغربة شِبه كل شيء!"
"لماذا في نافذة البهجة تداهمني ذاكرةُ المراثي؟"
أرشحها جدًا لكل من يحب قراءة عمل جميل مكتوب بصدق.